المادة    
أسبابُ استحقاقِِ الشَّفَاعَةِ.
  1. تحقيق التوحيد

    يتحقق توحيد العبد لله تَعَالَى بالإخلاص له وإفراده بالعبادة، هذا هو أول الأسباب التي يتوسل بها العبد إِلَى ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في أن يشفع فيه نبيه مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، وهذا من فضل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى هذه الأمة، ومن عظيم منته عليها وعلى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    فيختص الله من حقق التوحيد من هذه الأمة بهذه الأفضلية وبهذه الأسبقية وهم السبعون ألفاً الذين حققوا التوحيد، وهم :{الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون} وقد ورد بطرق حسنة: {إن مع كل ألف سبعون ألفاً}بل ورد أيضاً من طريق حسن {أن مع كل واحد من السبعين ألفاً سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب } فهَؤُلاءِ السبعون ألفاً هم الخلاصة، وهم أول من يدخل الجنة من هذه الأمة، وهم أفضلها، ثُمَّ يلحق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مع الواحد منهم سبعون ألفاً فضلاً وكرماً من الله - تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ثُمَّ بعد ذلك يدخل النَّاس من هذه الأمة ومن غيرها فيشتركون في أبواب الجنة الباقية.

    ولهذا تعرف جناية أعداء التوحيد الذين يريدون أن يبطلوا هذا الاستحقاق وذلك بدعوة النَّاس إِلَى فساد العقيدة بالأقوال الباطلة التي تدعو الْمُسْلِمِينَ إِلَى التعلق بذوات المخلوقين من الأَنْبِيَاء والصالحين، والتعلق بآثارهم والتوسل بها -كما يزعمون- وترك التوسل الحقيقي الذي أعظمه ورأسه توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    فهَؤُلاءِ الذين يربطون الْمُسْلِمِينَ بالأموات الغابرين الذين لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً هم أكبر الجناة عَلَى هذه الأمة؛ لأنهم يفسدون عليهم أعظم وأرجى ما عندها، وهو تحقيق التوحيد لله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فمن حقق التوحيد نال هذه الشَّفَاعَة، ومن لم يحققه فإنه يهلك هلاكاً يحرمه من الشَّفَاعَة كما قال الله تعالى: ((إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ))[المائدة:72]، فهذا هو أول الأعمال وأعلاها وأفضلها وأرجاها، وهو الذي يجب علينا جميعاً أن نحققه قولاً وعملاً واعتقاداً، وأن ندعو إليه، وأن يكون هو أساس دعوتنا، كما كَانَ أساس دعوات الأَنْبِيَاء صلوات الله وسلامه عليهم فلا يعبد ولا يطاع إلا الله، ولا يقدم بين يدي الله ورسوله، ولا يرتفع صوت فوق صوت رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهذا هو تحقيق التوحيد وتحقيق الإيمان.
  2. قراءة القرآن

    والعمل الثاني الذي ينال صاحبه به الشَّفَاعَة هو :
    قراءة القُرْآن كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: {اقرءوا القُرْآن فإنه يأتي يَوْمَ القِيَامَةِ شفيعاً لأصحابه}،
    ((وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القُرْآنَ مَهْجُوراً)) [الفرقان:30]، هجر وعده ووعيده فقلَّ أن تراه محققاً لمقتضى ذلك من الخوف من الله ورجاء الدار الآخرة، والرغبة عن هذه الحياة الدنيا.
    بل الواقع المشاهد هو الحرص والجشع والتنافس والتكاثر في هذه الحياة الدنيا، فهذا من أعظم ما هجر من القرآن، وكذلك هجرنا أحكامه فلم نُحل حلاله ولم نُحرم حرامه إلا من رَحِمَهُ اللَّهُ.
    فأصبحنا نرى أن الأحكام التي تحكم حياة الْمُسْلِمِينَ في الغالب هي الأحكام الوضعية، وكذلك الذي يحكم أعرافهم وآدابهم الاجتماعية هو ما نقل عن الغرب من آداب وعادات وتقاليد وليست هي أحكام القُرْآن وآدابه، وهذا من الهجر الذي فعلته الأمة، ولهذا استحقت هذه الأمة ما نزل بها من الذل والهوان.
    فكيف نتوقع لمن يأتي يَوْمَ القِيَامَةِ ورَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشكوه إِلَى ربه ويقول: ((وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القُرْآنَ مَهْجُوراً)) كيف ينال الشَّفَاعَة من هذه حالته؟ ولو نظرنا إِلَى حياتنا اليوم، أين نَحْنُ من هذا العمل؟ وأين من يتلو كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ أناء الليل وأناء النهار في البيوت؟! لقد استبدلت بما يسمع من قرآن الشيطان وهو هذه المعازف والمزامير واللهو واللعب في كل بيت وفي كل سيارة وفي كل وقت من أناء الليل وأناء النهار إلا ما شاء الله، أما القُرْآن فلا يتلوه ولا يقرءوه -ولا سيما في البيوت- إلا القلة الذين وفقهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لذلك.
    أما أكثر الْمُسْلِمِينَ فهم عنه غافلون وكثير من الْمُسْلِمِينَ لا يهمه أنه قرأ القُرْآن أو لم يقرأه، فحال الشيطان بينه وبين مصدر النور والهدى والحق والطمأنينة والتقوى واليقين والإيمان، ولهذا أصبحنا أمة ضائعة لا مكان لها في الدنيا بين الأمم ونخشى أن لا يكون لها عند الله تَعَالَى يَوْمَ القِيَامَةِ مكان أيضاً بين المرحومين وبين المشفوعين لهم، ولو قارنا بين الأشرطة الخبيثة من أفلام الفيديو وما أشبهها في البيوت أو في محلات البيع بالمصاحف من حيث الكم والعدد، ومن حيث إقبال النَّاس عَلَى هذا وعلى تلك، فسنجد الفرق واضحاً.

    والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أَحْمَد ومسلم رحمهما الله تعالى: {اقرءوا القُرْآن فإنه يأتي يَوْمَ القِيَامَةِ شفيعاً لأصحابه}، ثُمَّ خص من القُرْآن تلك السورتين العظيمتين البقرة وآل عمران، ثُمَّ خص سورة البقرة بالذات وهي مشتملة عَلَى آية الكرسي التي هي أعظم آية في كتاب الله وأواخرها أيضاً من أعظم ما نزل في كتاب الله عز وجل.

    وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفاضل بين الصحابة بالقرآن، وكان معيار المفاضلة بين النَّاس هو القُرْآن فأكثر النَّاس حفظاً للقرآن هو أجدر بأن يولى قيادة الجيش، وهو أجدر بأن يقدم حتى عند الدفن، هذه هي الأمة القرآنية حقاً، ولهذا فضلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى العالمين وأثنى عليها في الذكر المبين ونصرها وأورثها الدنيا شرقاً وغرباً لما كَانَ معيار التفاضل فيها هو القُرْآن وكان مرجعها في كل أمرها هو القُرْآن مع السنة التي هي شارحة ومبينة ومفسرة.
  3. الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

    الصلاة عَلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته حلت له شفاعتي يَوْمَ القِيَامَةِ} فما أيسر وما أسهل هذا العمل وما أعظم بركته وثمرته عند الله.
    الإِنسَان يسمع النداء، الذي يهز الأعماق، ويهز الأسماع ويدقها، في كل يوم خمس مرات الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلاّ الله، أشهد أن لا إله إلا الله هذه الشهادة العظيمة الركن الأول من أركان الإسلام.
    أشهد أن محمداً رَسُول الله، أشهد أن محمداً رَسُول الله، ثُمَّ الدعوة إِلَى الصلاة وإلى الفلاح، ثُمَّ إعادة تكبير الله عَزَّ وَجَلَّ وتعظيمه فوق كل عظيم، والشهادة له أيضاً بالوحدانية لا إله إلا الله، يقول العبد المسلم مثل ما يقول المؤذن، وإنما استثنى أن نقول إذا قَالَ: حي عَلَى الصلاة حي عَلَى الفلاح: "لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".
    ثُمَّ بعد ذلك نصلي عَلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونسأل الله له الوسيلة والدرجة العظيمة التي ليست إلا لرجل واحد هو مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمن قال ذلك حلت له شفاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فليس في هذا العمل مشقة ولا صعوبة؛ ولكن الشيطان يحرص عَلَى أن يشغلنا عن هذا الذكر العظيم، ليحرمنا من الشَّفَاعَة.

    وكم يحرص قطاع الطريق إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من دعاة الشرك والضلال عَلَى حرماننا منه قيقولون: إن كنتم تريدون شفاعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومحبته فهاكم هذه الصلوات، وكم من الأيام تقرأ أنواعاً وألواناً من الصلوات البدعية التي يفتعلها أصحابها ويكتبونها من عند أنفسهم ظانين أنها تقربهم إِلَى الله، وأن هذا دليل وعلامة محبتهم لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    وهذا من تلبيس الشيطان عليهم ليصرفهم من الدعاء الوارد الذي يستحق صاحبه هذا الفضل العظيم إِلَى تلك البدع التي قال فيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} فالبدعة مردودة غير مقبولة وصاحبها مأزور غير مأجور فهذا مما يوجب علينا مزيداً من الحرص عَلَى الاتباع وعدم الابتداع، وأن نعرف خطر هَؤُلاءِ قطاع الطريق إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
  4. سكنى المدينة

    من الأعمال التي صحت الأحاديث في أن صاحبها ينال بها شفاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي :
    سكنى المدينة والموت فيها، هذا البلد العظيم مهاجر رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي انبثقت منه أنوار التوحيد والهدى، وأسست فيه دولة الإسلام الأولى.
    وما زالت المدينة المنورة ولله الحمد تشع بالنور والخير في سائر العصور، ولم ينقطع منها الخير ولن ينقطع بإذن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وهذا كما روى الإمام مسلم عن أبي سعيد الخدري وابن عمر وأَبِي هُرَيْرَةَ يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يصبر أحد عَلَى لأواء المدينة فيموت إلا كنت له شفيعاً أو شهيداً يَوْمَ القِيَامَةِ}.
    واللأواء هي: الشدة والمرض والنصب الذي قد يصيب ساكن المدينة، وقد أصيب الصحابة الكرام بها، ومنهم: أبُو بَكْرٍ وبلال وغيرهم بهذه اللأواء أول ما سكنوها، ودعا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن يبارك الله في المدينة وأن يبارك في مدها وصاعها وأن تنقل حماها إِلَى الجحفة، وأصيب عدد من الناس ومنهم الأعرابي الذي أتاه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يزوره فقال له: {طهور، فقَالَ: بل حمَّى تفور...إلى آخر ما صدع به، فَقَالَ له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فكذلك إذاً}، وهذا كَانَ مما يعيق هجرة المهاجرين إلا من كَانَ فيهم قوي الإيمان ثابت العزيمة.
  5. أن يصلى عليه جمع من المسلمين

    أن يصلي عليه جمع من الْمُسْلِمِينَ، وقد ثبت ذلك عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في صحيح مسلم عن عَائِِِشَةَ وأنس وابن عباس أنه قال: {ما من ميت يصلى عليه أمة من الْمُسْلِمِينَ يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه} هذه الرواية "مائة" وفي رواية ابن عباس وحده "أربعون".
    ولو أخذنا بالرواية الأكثر فنقول: إن من صلى عليه مائة من الْمُسْلِمِينَ المؤمنين الموحدين فإنهم يشفعون فيه فيغفر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى له بشفاعتهم، وهذا يدلنا عَلَى فضل صلاة الجنازة وعلى أن العبد المسلم -ينتفع بإذن الله- بدعاء إخوانه له وبصلاتهم عليه، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه}، فلهذا كَانَ من أفضل الأعمال ومن خيرها، ومن حق المسلم عَلَى المسلم أن يشيع جنازته وأن يصلى عليه.
    وهذا من فضل التعاون عَلَى البر والتقوى، ومن فضل قيام الْمُسْلِمِينَ كل منهم بحق أخيه عليه، وما أكثر ما ضيعت حقوق الْمُسْلِمِينَ بعضهم عَلَى بعض، فالجار لا يقوم بحق جاره، والزوج لا يقوم بحق زوجته، والأخ لا يقوم بحق أخيه، والابن لا يقوم بحق أبيه، وهكذا إلا ما رحم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وقليل ما هم.
  6. هذه الأعمال تشمل جميع الأعمال

    لو تأملنا الأعمال السابقة لوجدنا أنه قد نبه عليها لعظمها، ولأنها تشمل جميع الأعمال في الحقيقة؛ فتحقيق التوحيد يشمل كل الأعمال لأنه لا يحقق التوحيد تحقيقاً كاملاً إلا من اجتنب الكبائر، ولهذا كَانَ بعض السلف يسمي الذنوب جميعاً شركاً، ويقول: ما عصى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أحدٌ إلا وقد اتبع هواه، وهذا نوع دقيق من الشرك، فهو عبودية القلب لغير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى باتباع الهوى، فهذا وإن كَانَ لا يسمى شركاً في الاصطلاح ولا يترتب عليه أحكام الشرك لكنه نوع دقيق من الشرك.
    ومن حقق التوحيد، أي: من كَانَ قلبه متمسكاً بالتوحيد، والإخلاص لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رجاءً وخوفاً وإنابةً ورغبةً ورهبةً وتوكلاً وإجلالاً وتعظيماً؛ فإنه لا يرتكب هذه الكبائر والموبقات، وإن ارتكب شيئاً منها، فإنه سرعان ما يعود، ويستغفر ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويتوب إليه، ويمحو تلك السيئات بهذه الحسنات.

    وكذلك قراءة القرآن: فالذي يقرأ القُرْآن سوف يقرأ التوحيد، والوعد والوعيد والحلال والحرام، والآداب والعبر، وقصص الأَنْبِيَاء ويقرأ الحكمة التي أنزلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في هذا الذكر الحكيم، ويقرأ كل ما من شأنه أن يجعله مطيعاً لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في جميع أموره، فيقرأه قراءة المتفقه المتدبر العامل به فيكون يَوْمَ القِيَامَةِ شفيعاً له، فالقرآن يرجع الخير كله إليه.
    وكذلك الصلاة عَلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخاصة في هذا المقام بعد الأذان، وعندما يقولها الإِنسَان بعد سماع هذا النداء وهذا الذكر، ولما أن تعودنا عليه أصبحنا لا نستغربه، وإلا فهو أمر عجيب لمن تأمله، فكلمة "الله أكبر" تتردد في هذه البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، تتردد في أرجاء الفضاء في كل يوم خمس مرات، هذا الذكر بهذه القوة وبهذا الارتفاع وبهذا العلو حدث عجيب.
    والذين لم يعرفوا هذا الذكر ولا قيمته كمن كَانَ في الجاهلية قبل أن يشرع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هذا الآذان أو في الجاهلية الحديثة إذا ذهب الإِنسَان إِلَى بلاد الكفر وافتقد الأذان عندما يعود إِلَى بلاد الإسلام ويسمع الأذان يشعر برهبة هذا الصوت ويتمنى أن يرتفع اسم الله وذكر الله في أجواء الدنيا ويسمعه النَّاس جميعاً.
    ولهذا بعده يقول المؤمن هذه الصلاة عَلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي جاءنا بهذا النور وبهذا الذكر والذي رفع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اسمه وقرن اسمه به في هذا النداء العظيم، فالصلاة عَلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الموضع العظيم موضع حث للنفس عَلَى أن تجيب نداء الله وتجيب داعي الله، وتذهب إِلَى بيت الله وتأتي بهذا الركن العظيم الذي هو عمود الإسلام كما قال تعالى: ((إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ))[العنكبوت:45] فهذه الصلاة من أداها حق الأداء وحافظ عليها، فإنها تكون له حصناً من الوقوع في الفواحش ما ظهر منها وما بطن، إذاً فلها علاقة بمعظم الأعمال الصالحة.
    وكذلك من سكن المدينة أيضاً وهذه فضيلة لهذه البلدة الطاهرة، وبالأخص للجيل الأول الذي كَانَ يهاجر إِلَى المدينة ويصبر عَلَى لأوائها فإنه بطبيعة الحال يعبد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ويطلب العلم من هذا البلد الذي لم ينقطع منه العلم ولن ينقطع بإذن الله، فيكون أقرب إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وإلى العمل بالكتاب والسنة منه في أي بلد آخر، عندما يكون في هذه البلدة التي شهدت قيام المجتمع الإسلامي الأول، وشهدت دعوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحياته من المهاجرين والأنصار، ولا تزال فيها تلك الأماكن التي أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن تزار فضلاً عن المسجد النبوي، وكذلك هناك قباء وهناك البقيع وهناك شهداء أحد وأمثال ذلك، وهذا يستدعي منه المداومة عَلَى الأعمال الصالحة والقربات التي فعلها أُولَئِكَ الجيل الفاضل.
    وكذلك الصلاة عَلَى جنازة المؤمن: هذا الجمع من المؤمنين -الذين يصلون عَلَى أخيهم الميت- إذا صلوا عليه، وهم بقلوب خالصة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وبدعاء وتضرع إليه؛ فإن هذا لا يكون أيضاً إلا ممن حقق الإيمان وممن حقق التوحيد، فهذا يقتضي أن يكون هَؤُلاءِ الداعون عَلَى هذه الدرجة من الفضيلة، وليس أي داعٍ أو مصل كمن صلّى ودعا وهو من أهل الدرجة الفضلى في التقوى والإحسان والإيمان.
  7. ما يمنع من الشفاعة يوم القيامة

    بقي أمر نُص عليه في الأحاديث يمنع صاحبه من أن يكون شفيعاً، فقد روى الإمام مسلم عن أبي الدرداء رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: {إن اللعانين لا يكونوا شهداء ولا شفعاء يَوْمَ القِيَامَةِ} واللعانون بصيغة المبالغة أي: الكثير اللعن؛ لأن اللعن لا يكون إلا من التشكي والغضب ومن ضيق النفس فيكثر الإِنسَان من اللعن، حتى يلعن الرجل زوجته، ويلعن ابنه، ويلعن ثوبه والعياذ بالله، فهذا اللاعن المتسخط الغضوب، الذي يأتي الشيطان عَلَى لسانه بهذه الكلمة، لا يكون يَوْمَ القِيَامَةِ شهيداً ولا شفيعاً.
    ومن هذا أيضاً نستنتج كما استنتجنا في الأول أنه ليس هذا هو العمل الوحيد الذي إذا فعله صاحبه أنه لا يشفع، فجدير بمن ارتكب الكبائر أن لا يكون شهيداً ولا شفيعاً؛ لأن من أتى بالموبقات والكبائر، فإنه يستحق دخول النَّار، إلا أن تشمله رحمة الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى إذا دخل النَّار، فهذا غاية ما يرجى له أن ينال الشَّفَاعَةَ.
    أما أن يشفع فذلك لا يكون، فمن ارتكب هذه الموبقات، فقد وضع نفسه في منزلة المحروم من أن يكون شفيعاً عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذه الخصلة التي نبه عليها هذا الحديث تدلنا عَلَى ما ورائها، وأن العبد لا يكون شفيعاً إلا بمقدار قربه من الله، ولهذا أعظم الشفعاء هو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه أكثر الخلق عبادةً وتقوى ومعرفة بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ثُمَّ من بعده الأمثل فالأمثل من الأَنْبِيَاء والصالحين، نسأل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أن يجعلنا من المقربين إليه ومن عباده الصالحين إنه سميع مجيب.